الكلام في من لم تبلغه الدعوة
ومن تاب عن ذنب أو كفر ثم رجع فيما تاب عنه قال أبو محمد: قال الله عز وجل " لأنذركم به ومن بلغ " و قال تعالى " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " فنص تعالى ذلك على أن النذارة لا تلزم إلا من بلغته لا من لم تبلغه وأنه تعالى لا يعذب أحداً حتى يأتيه رسول من عند الله عز وجل فصح بذلك أن من لم يبلغه الإسلام أصلاً فإنه لا عذاب عليه وهكذا جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يؤتى يوم القيامة بالشيخ الخرف والأصلح الأصم ومن كان في الفترة والمجنون فيقول المجنون يا رب أتاني الإسلام وأنا لا أعقل ويقول الخرف والأصم والذي في الفترة أشياء ذكرها فيوقد لهم نار وي قال لهم ادخلوها فمن دخلها وجدها برداً وسلاماً وكذلك من لم يبلغه الباب من واجبات الدين فإنه معذور لا ملامة عليه وقد كان جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم بأرض الحبشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة والقرآن ينزل والشرائع تشرع فلا يبلغ إلى جعفر وأصحابه أصلاً لانقطاع الطرق جملة من المدينة إلى أرض الحبشة وبقوا كذلك ست سنين فما ضرهم ذلك في دينهم شيئاً إذ عملوا بالمحرم وتركوا المفروض.
قال أبو محمد: ورأيت قوماً يذهبون إلى أن الشرائع لا تلزم من كان جاهلاً بها ولا من لم تبلغه.
قال أبو محمد: وهذا باطل بل هي لازمة له لأن رسول الله صلى الله وسلم بعث إلى الإنس كلهم وإلى الجن كلهم وإلى كل من لم يولد إذ بلغ بعد الولادة.
قال أبو محمد: قال الله تعالى آمراً أن يقول " إني رسول الله إليكم جميعاً " وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه أحداً و قال تعالى " أيحسب الإنسان أن يترك سدى " فأبطل سبحانه أن يكون أحد سدى والسدى هو المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهي فأبطل عز وجل هذا الأمر ولكنه معذور بجهله ومغيبه عن المعرفة فقط وأن من بلغه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حيث ما كان من أقاصي الأرض ففرض عليه البحث عنه فإذا بلغته نذارته ففرض عليه التصديق به وأتباعه وطلب الدين اللازم له والخروج عن وطنه لذلك وإلا فقد استحق الكفر والخلود في النار والعذاب بنص القرآن وكل ما ذكرنا يبطل قول من قال من الخوارج أن في حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم يلزم من في أقاصي الأرض الإيمان به ومعرفة شرائعه فإن ماتوا في تلك الحال ماتوا كفاراً إلى النار ويبطل هذا قول الله عز وجل " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " وليس في وسع أحد علم الغيب فإن قالوا فهذه حجة الطائفة القائلة أنه لا يلزم أحداً شيء من الشرائع حتى تبلغه قلنا لا حجة لهم فيها لأن كل ما كلف الناس فهو في وسعهم واحتمال بنيتهم إلا أنهم معذورون بمغيب ذلك عنهم ولم يكلفوا ذلك تكليفاً يعذبون به إن لم يفعلوه وإنما كلفوه تكليف من لا يعذبون حتى يبلغهم ومن بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن له أمراً من الحكم مجملاً ولم يبلغه نصه ففرض عليه اجتهاد نفسه في طلب ذلك الأمر وإلا فهو عاص لله عز وجل قال الله تعالى " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " وبقوله تعالى " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " وأما من تاب عن ذنب أو كفر ثم رجع إلى ما تاب عنه فإنه إن كان توبته تلك وهو معتقد للعودة فهو عابث مستهزئ مخادع لله تعالى قال الله تعالى " يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم " إلى قوله " عذاب أليم بما كانوا يكذبون " وأما من كانت توبته نصوحاً ثابت العزيمة في أن لا يعود فهي توبة صحيحة مقبولة بلا شك مسقطة لكل ما تاب عنه بالنص قال عز وجل " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً " فإن عاد بعد ذلك إلى الذنب الذي تاب منه فلا يعود عليه ذنب قد غفره الله له أبداً فإن ارتد ومات كافراً فقد سقط عنه الكفر وغيره.
قال أبو محمد: ولا تكون التوبة إلا بالندم والاستغفار وترك المعاودة والعزيمة على ذلك والخروج من مظلمة إن تاب عنها إلى صاحبها بتحلل أو إنصاف ورأيت لأبي بكر أحمد بن علي بن يفجور المعروف بابن الأخشيد وهو أحد أركان المعتزلة وكان أبوه من أبناء ملوك فرغانة من الأتراك وولى أبوه الثغور وكان هذا أبو بكر ابنه يتفقه للشافعي فرأيت له في بعض كتبه يقول أن التوبة هي الندم فقط وإن لم ينو مع ذلك ترك المراجعة لتلك الكبيرة.
قال أبو محمد: هذا أشنع ما يكون من قول المرجئة لأن كل معتقد للإسلام فبلا شك ندري أنه نادم على كل ذنب يعمله عالماً بأنه مسيء فيه مستغفر منه ومن كان بخلاف هذه الصفة لكن مستحسناً لما فعل غير نادم عليه فليس مسلماً فكل صاحب كبيرة فهو على قول ابن الأخشيد غير مؤاخذ بها لأنه تائب منها وهذا خلاف الوعيد فإن قال قائل فإنكم تقطعون على قبول إيمان المؤمن أفتقطعون على قبول توبة التائب وعمل العامل للخير إن كل ذلك مقبول وهل تقطعون على المكثر من السيئات أنه في النار قلنا وبالله تعالى التوفيق أن الأعمال لها شروط من توفية النية حقها وتوفية العمل حقه فلو أيقنا أن العمل وقع كاملاً كما أمر الله تعالى لقطعنا على قبول الله عز وجل له وأما التوبة فإذا وقعت نصوحاً فنحن نقطع بقبولها وأما القطع على مظهر الخير بأنه في الجنة وعلى مظهر الشر والمعاصي بأنه في النار فهذا خطأ لأننا لا نعلم ما في النفوس ولعل المظهر الخير مبطن للكفر أو مبطن على كباير لا نعلمها فواجب أن لا نقطع من أجل ذلك عليه بشيء وكذلك المعلن بالكبائر فإنه يمكن أن يبطن الكفر في باطن أمره فإذا قرب من الموت آمن فاستحق الجنة أو لعل له حسنات في باطن أمره تفيء على سيئاته فيكون من أهل الجنة فلهذا وجب أن لا نقطع على أحد بعينه بجنة ولا نار حاشا من جاء النص فيه من الصحابة رضي الله عنهم بأنهم في الجنة وبأن الله علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأهل بدر وأخل السوابق فإنا نقطع على هؤلاء بالجنة لأن الله تعالى أخبرنا بذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وحاشا من مات معلناً للكفر فإنا نقطع عليه بالنار ونقف فيمن عدا هؤلاء إذا أننا نقطع على الصفات فنقول من مات معلناً للكفر أو مبطناً له فهو في النار خالداً فيها ومن لقي الله تعالى راجح الحسنات على السيئات والكبائر أو متسايهما فهو في الجنة لا يعذب بالنار ومن لقي الله تعالى راجح الكبائر على الحسنات ففي النار ويخرج منها بالشفاعة إلى الجنة وبالله قال أبو محمد: ورأيت بعض أصحابنا يذهب إلى شيء يسميه شاهد الحال وهو أن من كان مظهر الشيء من الديانات متحملاً للأذى فيه غير مستجلب بما يلقي من ذلك حالاً فإنه مقطوع على باطنه وظاهره قطعاً لا شك فيه كعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والحسن البصري وابن سيرين ومن جرى مجراهم ممن قبلهم أو بعدهم فإن هؤلاء رضي الله عنهم رفضوا من الدنيا ما لو استعملوه لما حط من وجاهتهم شيئاً واحتملوا من المضض ما لو خففوه عن أنفسهم لم يقدح لهم ذلك فيهم عند أحد فهؤلاء مقطوع على إسلامهم عند الله عز وجل وعلى خيرهم وفضلهم وكذلك نقطع على أن عمر بن عبيد كان يدين بأبطال القدر بلا شك في باطن أمره وأن أبا حنيفة والشافعي رضي الله عنهما كانا في باطن أمرهما يدينان الله تعالى بالقياس وأن داود بن علي كان في باطن الأمر يدين الله تعالى بإبطال القياس بلا شك وأن أحمد بن حنبل رضي الله عنه كان يدين الله تعالى بالتدين بالحديث في باطن أمره بلا شك وبأن القرآن غير مخلوق بلا شك وهكذا كل من تناصرت أحواله وظهر جده في معتقد وترك المسامحة فيه واحتمل الأذى والمضض من أجله.
قال أبو محمد: وهذا قول صحيح لا شك فيه إذ لا يمكن البتة في بنية الطبائع أن يحتمل أحد أذى ومشقة لغير فائدة يتعجلها أو يتأجلها وبالله تعالى التوفيق ولا بد لكل ذي عقد من أن يتبين عليه شاهد عقده بما يبدو منه من مسامحة فيه أو صبر عليه وأما من كان بغير هذه الصفة فلا نقطع على عقده وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الشفاعة والميزان والحوض وعذاب القبر والكتبة
قال أبو محمد: اختلف الناس في الشفاعة فأنكرها قوم وهم المعتزلة والخوارج وكل من تبع أن لا يخرج أحد من النار بعد دخوله فيها وذهب أهل السنة والأشعرية والكرامية وبعض الرافضة إلى القول بالشفاعة واحتج المانعون بقول الله عز وجل " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " وبقوله عز وجل " يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله " وبقوله تعالى " قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً " وبقوله تعالى " واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة " وبقوله تعالى " من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " وبقوله تعالى " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " وبقوله تعالى " وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ".
قال أبو محمد: من يؤمن بالشفاعة أنه لا يجوز الاقتصار على بعض القرآن دون بعض ولا على بعض السنن دون بعض ولا على القرآن دون بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال له ربه عز وجل " لتبين للناس ما نزل إليهم " وقد نص الله على صحة الشفاعة في القرآن فقال تعالى " لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً " فأوجب عزل وجل الشفاعة إلا من اتخذ عنده عهداً بالشفاعة وصحت بذلك الأخبار المتواترة المتناصرة بنقل الكواف لها قال تعالى " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً " و قال تعالى " ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " فنص تعالى على أن الشفاعة يوم القيامة تنفع عنده عز وجل ممن أذن له فيها ورضي قوله ولا أحد من الناس أولى بذلك من محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أفضل ولد آدم عليه السلام و قال تعالى " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وكم من ملوك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " و قال تعالى " ما من شفيع إلا من بعد إذنه " فقد صحت الشفاعة بنص القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فصح يقيناً أن الشفاعة التي أبطلها الله عز وجل هي غير الشفاعة التي أثبتها عز وجل وإذ لا شك في ذلك فالشفاعة التي أبطلها الله عز وجل هي الشفاعة للكفار الذين هم مخلدون في النار قال تعالى لا يخفف عنهم من عذابها ولا يقضي عليهم فيموتوا نعوذ بالله منها فإذ لا شك فيه فقد صح يقيناً أن الشفاعة التي أوجب الله عز وجل لمن أذن له واتخذ عنده عهداً ورضي قوله فإنما هي لمذنبي أهل الإسلام وهكذا جاء الخبر الثابت.
قال أبو محمد: وهما شفاعتان إحداهما الموقف ومسعه الحال وهو المقام المحمود الذي جاء النص في القرآن به في قوله " عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً " وهكذا جاء الخبر الثابت نصاً والشفاعة الثانية في إخراج أهل الكبائر من النار طبقة طبقة على ما صح في ذلك الخبر وأما قول الله تعالى " قل لا أملك لكم ضراً ولا رشداً ولا تملك نفس لنفس شيئاً " فما خالفناهم في هذا أصلاً وليس هذا من الشفاعة في شيء فنعم لا يملك لأحد نفعاً ولا ضراً ولا رشداً ولا هدى وإنما الشفاعة رغبة إلى الله تعالى وضراعة ودعاء و قال بعض منكري الشفاعة أن الشفاعة ليست غلا في المحسنين فقط واحتجوا بقوله تعالى " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ".
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن من أذن الله في إخراجه من النار وأدخله الجنة وأذن للشافع في الشفاعة له في ذلك فقد ارتضاه وهذا حق وفضل الله تعالى على من قد غفر له ذنوب بأن رجحت حسناته على كبائره أو بأن لم تكن له كبيرة أو بأن تاب عنها فهو مغن له عن شفاعة كل شافع فقد حصلت له الرحمة والفوز من الله تعالى وأمر به إلى الجنة ففيما ذا يشفع له وإنما الفقير إلى الشفاعة من غلبت كبائره حسناته فأدخل النار ولم يأذن تعالى بإخراجه منها إلا بالشفاعة وكذلك الخلق في كونهم في الموقف هم أيضاً في مقام شنيع فهم أيضاً محتاجون إلى الشفاعة وبالله تعالى التوفيق وبما صحت الأخبار من ذلك نقول.
وأما الميزان فقد أنكره قوم فخالفوا كلام الله تعالى وإقداماً وتنطع آخرون فقالوا هو ميزان بكفتين من ذهب وهذا إقدام آخر لا يحل قال الله عز وجل " ويقولون بأفواههم ما ليس لهم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ".
قال أبو محمد: وأمور الآخرة لا تعلم إلا بما جاء في القرآن أو بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأت عنه عليه السلام شيء يصح في صفة الميزان ولو صح عنه عليه السلام في ذلك شيء لقلنا به فإذ لا يصح عنه عليه السلام في ذلك فلا يحل لأحد أن يقول على الله عز وجل ما لم يخبرنا به لكن نقول كما قال الله عز وجل " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة " إلى قوله " وكفى بنا حاسبين " و قال تعالى " والوزن يومئذ الحق " و قال تعالى " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية " فنقطع على أن الموازين توضع يوم القيامة لوزن أعمال العباد قال تعالى عن الكفار " فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً " وليس هذا على أن لا توزن أعمالهم بل توزن لكن أعمالهم شائلة وموازينهم خفاف قد نص الله تعالى على ذلك إذ يقول " ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون " إلى قوله " فكنتم بها تكذبون " فأخبر عز وجل أن هؤلاء المكذبين بآياته خفت موازينهم والمكذبون بآيات الله عز وجل كفار بلا شك ونقطع على أن تلك الموازين أشياء يبين الله عز وجل بها لعباده مقادير أعمالهم من خير أو شر من مقدار الذرة التي لا تحس وزنها في موازيننا أصلاً فما زاد ولا ندري كيف تلك الموازين إلا أننا ندري أنها بخلاف موازين الدنيا وأن ميزان من تصدق بدينار أو بلؤلؤة أثفل ممن تصدق بكذآنة وليس هذا وزناً وندري أن إثم القاتل أعظم من إثم اللاطم وأن ميزان مصلي الفريضة أعظم من ميزان مصلي التطوع بل بعض الفرائض أعظم من بعض فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من صلى الصبح في جماعة كمن قام ليلة ومن صلى العتمة في جماعة فكأنما قام نصف ليلة وكلاهما فرض وهكذا جميع الأعمال فإنما يوزن عمل العبد خيره مع شره ولو نصح المعتزلة أنفسهم لعلموا أن هذا عين العدل وأما من قال بما لا يدري أن ذلك الميزان ذو كفتين فإنما قال ه قياساً على موازين الدنيا وقد أخطأ في قياسه إذ في موازين الدنيا ما لا كفة له كالقرطسون وأما نحن فإنما اتبعنا النصوص الواردة في ذلك فقط ولا نقول إلا بما جاء به قرآن أو سنة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا ننكر إلا ما لم يأت فيهما ولا نكذب إلا بما فيهما إبطاله وبالله تعالى التوفيق.
وأما الحوض فقد صحت الآثار فيه وهو كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن ورد عليه من أمته ولا ندري لمن أنكره متعلقاً ولا يجوز مخالفة ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا وغيره وبالله تعالى التوفيق.
وأما الصراط فقد ذكرناه في الباب الأول الذي قبل هذا وأنه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضع الصراط بين ظهراني جهنم ويمر علهي الناس فمخدوج وناج ومكردس في نار جهنم وأن الناس يمرون عليه على قدر أعمالهم كمر الطرف فما دون ذلك إلى من يقع في النار وهو طريق أهل الجنة إليها من المحشر في الأرض إلى السماء وهو معنى قول الله تعالى " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " وأما كتاب الملائكة لأعمالنا فحق قال الله تعالى " وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين " وقال تعالى " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " وقال تعالى " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك " و قال تعالى " إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ".
قال أبو محمد وكل هذا ما لا خلاف فيه بين أحد ممن ينتمي إلى الإسلام إلا أنه لا يعلم أحد من الناس كيفية ذلك الكتاب.
عذاب القبر قال أبو محمد ذهب ضرار بن عمرو الغطفاني أحد شيوخ المعتزلة إلى إنكار عذاب القبر وهو قول من لقينا من الخوارج وذهب أهل السنة وبشر بن المعتمر والجبائي وسائر المعتزلة إلى القول به وبه نقول لصحة الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به.
قال أبو محمد: وقد احتج من أنكره بقول الله تعالى " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " وبقوله قال أبو محمد: وهذا حق لا يدفع عذاب القبر لأن فتنة القبر وعذابه والمساءلة إنما هي للروح فقط بعد فراقه للجسد إثر ذلك قبر أو لم يقبر برهان ذلك قول الله تعالى " وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ " الآية وهذا قبل القيامة بلا شك وأثر الموت وهذا هو عذاب القبر و قال " إنما توفون أجوركم يوم القيامة " و قال تعالى في آل فرعون " النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب " فهذا العرض المذكور هو عذاب القبر وإنما قيل عذاب القبر فأضيف إلى القبر لأن المعهود في أكثر الموتى أنهم يقبرون وقد علمنا أن فيهم أكيل السبع والغريق تأكله دواب البحر والمحرق والمصلوب والمعلق فلو كان على ما يقدر من يظن أنه لا عذاب إلا في القبر المعهود لما كان لهؤلاء فتنة ولا عذاب قبر ولا مساءلة ونعوذ بالله من هذا بل كل ميت فلا بد له من فتنة وسؤال وبعد ذلك سرور أو نكد إلى يوم القيامة فيوفون حينئذ أجورهم وينقلبون إلى الجنة أو النار وأيضاً فإن جسد كل إنسان فلا بد من العود إلى التراب يوماً ما كما قال الله تعالى " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " فكل من ذكرنا من مصلوب أو معلق أو محرق أو أكيل سبع أو دابة فإنه يعود رماداً أو رجيعاً ويتقطع فيعود إلى الأرض ولا بد وكل مكان استقرت فيه النفس أثر خروجها من الجسد فهو قبر لها إلى يوم القيامة وأما من ظن أن الميت يحيى في قبره فخطأ لأن الآيات التي ذكرنا تمنع من ذلك ولو كان ذلك لكان تعالى قد أماتنا ثلاثة وأحياناً ثلاثاً وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه الله تعالى آية لنبي من الأنبياء و " الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " و " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه " وكذلك قوله تعالى " الله يتوفى الأنفس حين موتها " إلى قوله " إلى أجل مسمى " فصح بنص القرآن أن روح من مات لا يرجع إلى جسده إلا إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة وكذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الأرواح ليلة أسرى به عند سماء الدنيا عن يمين آدم عليه السلام أرواح أهل السعادة وعن شماله أهل الشقاء وأخير عليه السلام يوم بدر إذ خاطب القتلى وأخبر أنهم وجدوا ما توعدهم به حقاً قبل أن يكون لهم قبور فقال المسلمون يا رسول الله أتخاطب قوماً قد جيفوا فقال عليه السلام ما أنتم بأسمع لما أقول منهم فلم ينكر عليه السلام على المسلمين قولهم أنهم قد جيفوا وأعلمهم أنهم سامعون فصح أن ذلك لأرواحهم فقط بلا شك وأما الجسد فلا حس له.
قال أبو محمد: ولم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر يصح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المساءلة ولو صح ذلك عنه عليه السالم لقلنا به فإذ لا يصح فلا يحل لأحد أن يقول وإنما انفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح المنهال بن عمرو وحده وليس بالقوى تركه شعبة وغيره وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك وهذا الذي قلنا هو الذي صح أيضاً عن الصحابة رضي الله عنهم لم يصح عن أحد منهم غير ما قلنا كما حدثنا محمد بن سعيد ابن محمد بن عبد الله بن يزيد المقري عن جده محمد بن عبد الله عن سفيان بن عيينة عن منصور ابن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قال ت دخل ابن عمر المسجد فأبصر ابن الزبير مطروحاً قبل أن يصلب فقيل له هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق فمال إليها فعزاها و قال أن هذه الجثث ليست بشيء وأن الأرواح عند الله فقال ت أسماء وما يمنعني وقد أهدى رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل وحدثنا محمد بن بيان ثنا أحمد بن عون الله حدثنا قاسم بن اصبغ حدثنا محمد بن عبد السلام الحسيني ثنا أبو موسى محمد بن المثني الزمن ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان الثوري عن أبي اسحق السبيعي عن أبي الأحوص عن ابن مسعود في قول الله عز وجل " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " قال ابن مسعود هي التي في البقرة " وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " فهذا ابن مسعود وأسماء بنت أبي بكر الصديق وابن عمر رضي الله عنهم ولا مخلاف من الصحابة رضي الله عنهم تقطع أسماء وابن عمر على أن الأرواح باقية عند الله وأن الجثث ليست بشيء ويقطع ابن مسعود بأن الحياة مرتان قال أبو محمد: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى موسى عليه السالم قائماً في قبره يصلي ليلة الإسراء وأخبر أنه رآه في السماء السادسة أو السابعة وبلا شك إنما رأى روحه وأما جسده فموارى بالتراب بلا شك فعلى هذا أن موضع كل روح يسمى قبراً فتعذب الأرواح حينئذ وتسأل حيث كانت وبالله تعالى التوفيق.
مستقر الأرواح قال أبو محمد اختلف الناس في مستقر الأرواح وقد ذكرنا بطلان قول أصحاب التناسخ في صدر كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين فذهب قوم من الروافض إلى أن أرواح الكفار ببيرهونت وهو بئر بحضرموت وأن أرواح المؤمنين بموضع آخر أظنه الجابية وهذا قول فاسد لأنه لا دليل عليه أصلاً وما لا دليل عليه فهو ساقط ولا يعجز أحد عن أن يدعي للأرواح مكاناً آخر غير ما ادعاه هؤلاء وما كان هكذا فلا يدين به إلا مخذول وبالله تعالى التوفيق.
وذهب عوام أصحاب الحديث إلى أن الأرواح على أفنية قبورها وهذا قول لا حجة له أصلاً تصححه الأخبر ضعيف لا يحتج بمثله لأنه في غاية السقوط لا يشتغل به أحد من علماء الحديث وما كان هكذا فهو ساقط أيضاً وذهب أبو الهذيل العلاف والأشعرية إلى أن الأرواح أعراض تفنى ولا تبقى وقتين فإذا مات الميت فلا روح هنالك أصلاً ومن عجائب أصحاب هذه الم قال ة الفاسدة قولهم أن روح الإنسان الآن غير روحه قبل ذلك وأنه لا ينفك تحدث له روح ثم تفني وهكذا أبداً وأن الإنسان يبدل ألف ألف روح وأكثر في مقدار أقل من ساعة زمانية وهذا يشبه تخليط من هاج به البرسام وزاد بعضهم فقال إن صحت الآثار في عذاب الأرواح فإن الحياة ترد إلى أقل جزء لا يتجزأ من الجسم فهو يعذب وهذا أيضاً حمق آخر ودعاوي في غاية الفساد وبلغني عن بعضهم أنه يزعم أن الحياة ترد إلى عجب الذنب فهو يعذب أو ينعم وتعلق بالحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب.
قال أبو محمد: وهذا الخبر صحيح إلا أنه لا حجة فيه لأنه ليس فيه أن عجب الذنب يحيا ولا أنه يركب فيه حياة ولا أنه يعذب ولا ينتقم وهذا كله مفحم في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما في الحديث أن عجب الذنب خاصة لا يأكله التراب فلا يحول تراباً وأنه منه ابتداء خلق المرء ومنه يبتدأ إنشاؤه ثانية فقط وهذا خارج أحسن خروج على ظاهره وأن عجب الذنب خاصة تتبدد أجزاؤه وهي عظام تحسها لا تحول تراباً وأن الله تعالى يبتدئ الإنشاء الثاني يجمعها ثم يركب تمام الخلق للإنسان عليه وأنه أول ما خلق من جسم الإنسان ثم ركب عليه سائره وإذ هذا ممكن لو لم يأت به نص فخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالتصديق من كل خبر لأنه عن الله عز وجل قال تعالى " هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم " و قال تعالى " مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا " و قال أبو بكر بن كيسان الأصم لا أدري ما الروح ولم يثبت شيء غير الجسد.
قال أبو محمد: وسنبين إن شاء الله تعالى فساد هاتين الم قال تين في باب الكلام في الروح والنفس من كتابنا هذا بحول الله وقوته والذي نقول به في مستقر الأرواح هو ما قال ه الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم لا يتعداه فهو البرهان الواضحوهو أن الله تعالى قال " وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " و قال تعالى " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا " فصح أن الله عز وجل خلق الأرواح جملة وهي الأنفس وكذلك أخبر عليه السلام أن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
قال أبو محمد: وهي العاقلة الحساسة وأخذ عز وجل عهدها وشهادتها وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم على جميعهم السلام وقبل أن يدخلها في الأجساد والأجساد يومئذ تراب وماء ثم أقرها تعالى حيث شاء لأن الله تعالى ذكر ذلك بلفظة ثم التي توجب التعقيب والمهلة ثم أقرها عز وجل حيث شاء وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت لا تزال يبعث منها الجملة بعد الجملة فينفخها في الأجساد المتولدة من المنى المنحدر من أصلاب الرجال وأرحام النساء كما قال تعالى " ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى " و قال عز وجل " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً " الآية وكذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يجمع خلق ابن آدم في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح وهذا نص قولنا والحمد لله فيبلوهم الله عز وجل في الدنيا كما شاء ثم يتوفاها فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى بع عند سماء الدنيا أرواح أهل السعادة عن يمين آدم عليه السلام وأرواح أهل السقاوة عن يساره عليه السلام وذلك عند منقطع العناصر وتعجل أرواح الأنبياء عليهم السلام وأرواح الشهداء إلى الجنة وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا القول الذي قلنا بعينه و قال على هذا أجمع أهل العلم.
قال أبو محمد: وهو قول جميع أهل الإسلام حتى خالف من ذكرنا وهذا هو قول الله عز وجل " فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ " وقوله تعالى " وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ " ولا تزال الأرواح هنالك حتى يتم عدد الأرواح كلها بنفخها في أجسادها ثم برجوعها إلى البرزخ المذكور فتقوم الساعة ويعيد عز وجل الأرواح ثانية إلى الأجساد وهي الحياة الثانية ويحاسب الخلق فريق في الجنة وفريق في السعير مخلدين أبداً.
قال أبو محمد: قول بعض الأشعرية معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المأخوذ في قول الله عز وجل " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم " إن إذ هاهنا بمعنى إذا فقول في غاية السقوط لوجوه خمسة أولها أنه دعوى بلا دليل والثانية أن إذ بمعنى إذا لا يعرف في اللغة وثالثها أنه لو صح له تأويله هذا الفاسد وهو لا يصح لكان كلاماً لا يعقل ولا يفهم وإنما أورده عز وجل حجة علينا ولا يحتج الله عز وجل إلا بما يفهم لا بما لا يفهم لأن الله تعالى قد تطول علينا بإسقاط الأصر عنا ولا أصر أعظن من تكليفنا فهم ما ليس في بنيتنا فهمه ورابعها أنه لو كان كما ادعى لما كان على ظهر الأرض إلا مؤمن والعيان يبطل هذا لأننا نشاهد كثيراً من الناس لم يقولوا قط ربنا الله ممن نشأ على الكفر وولد عليه إلى أن مات وممن يقول بأن العالم لم يزل ولا محدث له من الأوائل والمتأخرين وخامسها أن الله عز وجل إنما أخبر بهذه الآية عما فعل ودلنا بذلك على أن الذكر يعود بعد فراق الروح للجسد كما كان قبل حلوله فيه لأنه تعالى أخبرنا أنه أقام علينا الحجة بذلك الإشهاد دليلاً كراهية أن نقول يوم القيامة أنا كنا نحن فيها عن هذا غافلين أي عن ذلك الإشهاد المذكور فصح أن ذلك الإشهاد قبل هذه الدار التي نحن فيها التي أخبرنا الله عز وجل فيها بذلك الخبر وقبل يوم القيامة أيضاً فبطل بذلك قول بعض الأشعرية وغيرها وصح أن قولنا هو نص الآية والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وإنما أتى المخالفون منهم أنهم عقدوا على أقوال ثم راموا رد كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها وهذا هو الباطل الذي لا يحل ونحن ولله الحمد إنما أتينا إلى ما قال ه عز وجل وما صح عن رسول صلى الله عليه وسلم فقلنا به ولم نحكم في ذلك بطراً ولا هوى ولا رددناهما إلى قول أحد بل رددنا جميع الأقوال إلى نصوص القرآن والسنن والحمد لله رب العالمين كثيراً وهذا هو الحق الذي لا يحق تعديه.
قال أبو محمد: وأما أرواح الأنبياء عليهم السلام فهم الذين ذكر الله تعالى أنهم المقربون في جنات النعيم وأنهم غير أصحاب اليمين وكذلك أخبر عليهم السلام أنه رآهم في السموات ليلة أسرى به في سماء سماء وكذلك الشهداء أيضاً هم في الجنة لقول الله عز وجل " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون " وهذا الرزق للأرواح بلا شك ولا يكون إلا في الجنة وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث الذي روي نسمة المؤمن طائر يعلق من ثمار الجنة ثم تأوى إلى قناديل تحت العرش وروينا هذا الحديث مبيناً من طريق ابن مسعود رضي الله عنه وأنهم الشهداء وبهذا تتألف الأحاديث والآيات والحمد لله رب العالمين فإن قال قائل كيف تخرج الأنبياء عليهم السلام والشهداء من الجنة إلى حضور الموقف يوم القيامة قيل له وبالله التوفيق لسنا ننكر شهادة القرآن والحديث الصحيح بدخول الجنة والخروج عنها قبل يوم القيامة فقد خلق الله عز وجل فيها آدم عليه السلام وحواء ثم أخرجهما منها إلى الدنيا والملائكة في الجنة ويخرجون منها برسالات رب العالمين إلى الرسل والأنبياء إلى الدنيا وكل ما جاء به نص قرآن أو سنة فلا ينكره إلا جاهل أو مغفل أو رديء الدين وأما الذي ينكر ولا يجوز أن يكون البتة فخروج روح من دخل الجنة إلى النار فالمنع من هذا إجماع من جميع الأمة متيقن مقطوع به وكذلك من دخلها يوم القيامة جزاء أو تفضلاً من الله عز وجل فلا سبيل إلى خروجه منها أبداً بالنص وبالله تعالى التوفيق.
الكلام على من مات من أطفال المسلمين والمشركين قبل البلوغ
قال أبو محمد: اختلف الناس في حكم من مات من أطفال المسلمين والمشركين ذكورهم وإناثهم فقال ت الأزارقة من الخوارج أما أطفال المشركين ففي النار وذهبت طائفة إلى أنهم يوقد لهم يوم القيامة نار ويؤمرون باقتحامها فمن دخلها منهم دخل الجنة ومن لم يدخلها منهم أدخل النار وذهب آخرون إلى الوقوف فيهم وذهب جمهور الناس إلى أنهم في الجنة وبه نقول.
قال أبو محمد: فأما الأزارقة فاحتجوا بقول الله تعالى حاكياً عن نوح عليه السلام أنه قال " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً أنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً " ويقول روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها قلت يا رسول الله أين أطفالي منك قال في الجنة قال ت فأطفال من غيرك قال في النار فأعادت عليه فقال لها إن شئت أسمعتك تضاغيهم وبحديث آخر فيه الوائدة والموءودة في النار و قالوا إن كانوا عندكم في الجنة فهم مؤمنون لأنه لا يدخل الجنة الأنفس مسلمة فإن كانوا مؤمنين فيلزمكم أن تدفنوا أطفال المشركين مع المسلمين وأن لا تتركوه يلتزم إذا بلغ دين أبيه فتكون ردة وخروجاً عن الإسلام والكفر وينبغي لكم أن ترثوه وتورثوه من أقاربه من المسلمين.
قال أبو محمد: هذا كلما احتجوا به ما يعلم لهم حجة غير هذا أصلاً وكله لا حجة لهم فيه البتة أما قول نوح عليه السلام فلم يقل ذلك على كل كافر بل قال ذلك على كفار قومه خاصة لأن الله تعالى قال له " أنه لا يؤمن من قومك إلا من قد آمن " فأيقن نوح عليه السلام بهذا الوحي أنه لا يحدث فيهم مؤمن أبداً وإن كل من ولدوه إن ولدوه لم يكن إلا كافراً ولا بد وهذا هو نص الآية لأنه تعالى حكي أنه قال " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً " وإنما أراد كفار وقته الذين كانوا على الأرض حينئذ فقط ولو كان للأزارقة أدنى علم وفقه لعلموا أن هذا من كلام نوح عليه السلام ليس على كل كافر لكن على قوم نوح خاصة لأن إبراهيم ومحمداً صلى الله عليهما وسلم كانا أبواهما كافرين مشركين وقد ولدا خير الأنس والجن من المؤمنين وأكمل الناس إيماناً ولكن الأزارقة كانوا أعراباً جهالاً كالأنعام بل هم أضل سبيلاً وهكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق الأسود بن سريع التميمي أنه عليه السلام قال أوليس خياركم أولاد المشركين.
قال أبو محمد: وهل كان أفاضل الصحابة رضي الله عنهم الذين يتولاهم الأزارقة كابن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وخديجة أم المؤمنين وغيرهم رضي الله عنهم إلا أولاد الكفار فهل ولد آباؤهم كفاراً وهل ولدوا إلا أهل الإيمان الصريح ثم آباء الأزارقة أنفسهم كوالدنا نافع ابن الأزرق وغيرهم من شيوخهم هل كانوا إلا أولاد المشركين ولكن من يضلل الله فلا هادي له وأما حديث خديجة رضي الله عنها فساقط مطرح لم يروه قط من فيه خير وأما حديث الوائدة فإنه جاء كما نذكره حدثنا يوسف بن عبد البر أنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن اصبغ حدثنا بكر بن حماد حدثنا مسدد عن المعتمر بن سليمان التميمي قال سمعت داود بن أبي هند يحدث عن عامر الشعبي عن علقمة بن قيس عن سلمة بن يزيد الجعفي قال أتيت أنا وأخي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا له أن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقرى الضيف وتصل الرحم فهل ينفعها من عملها ذلك شيء قال لا قلنا فإن أمنا وأدت أختاً لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الموءودة والوائدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم.
قال أبو محمد: وهذه اللفظة يعني لم تبلغ الحنث ليست بلا شك من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها من كلام سلمة بن يزيد الجعفي وأخيه فلما أخبر عليه السلام بأن تلك الموءودة في النار كان ذلك إنكاراً وإبطالاً لقولهما أنها لم تبلغ الحنث وتصحيحها لأنها قد كانت بلغت الحنث بخلاف ظنها لا يجوز إلا هذا القول لأن كلامه عليه السلام لا يتناقض ولا يتكاذب ولا يخالف كلام ربه عز وجل بل كلامه عليه السلام يصدق بعضه بعضاً ويوافق لما أخبر به عز وجل ومعاذ الله من غير ذلك وقد صح أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن أطفال المشركين في الجنة قال الله تعالى " وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ " فنص تعالى على أنه لا ذنب للموءودة فكان هذا مبين لأن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن تلك الموءودة في النار أخبار عن أنها قد كانت بغت الحنث بخلاف ظن أخويها وقد روي هذا الحديث عن داود بن أبي هند محمد بن عدي وليس هو دون المعتمر ولم يذكر فيه لم تبلغ الحنث ورواه أيضاً داود بن أبي هند عبيدة بن حميد فلم يذكر هذه اللفظة التي ذكرها المعتمر فأما حديث عبيدة فحدثناه أحمد بن محمد بن الجسور قال أنا وهب بن ميسرة قال حدثنا محمد بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبيدة ابن حميد عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة بن قيس عن سلمة بن يزيد قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأخي فقلنا يا رسول الله إن أمنا كانت تقرى الضيف وتصل الرحم في الجاهلية فهل ينفعها ذلك شيئاً قال لا قال فإنها وأدت أختاً لنا في الجاهلية فهل ينفع ذلك أختنا شيئاً قال لا الوائدة والموءودة في النار إلا أن تدرك الإسلام فيعفوا الله عنها وأما حديث ابن أبي عدي فحدثناه أحمد بن عمر بن أنس العذري حدثنا أبو بدر عبد بن أحمد الهروي الأنصاري حدثنا أبو محمد سعيد الخليل بن أحمد السجستاني حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود ابن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن سلمة بن يزيد الجعفي قال انطلقت أنا وأخي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله إن مليكة كانت تصل الرحم وتقرى الضيف وتفعل هلكت في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئاً قال لا قال فإنها وأدت أختاً لها في الجاهلية فهل قال أبو محمد: هكذا رويناه لها بالهاء على أنها أخت الوائدة.
قال أبو محمد: وهذا حديث قد رويناه مختصراً كما حدثاه عبد الله ابن ربيع التميمي حدثنا عمر ابن عبد الملك الخولاني حدثنا محمد ابن بكر الوراق البصري حدثنا أبو داود السجستاني حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثني أبي عن عامر الشعبي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الوائدة والموءودة في النار قال يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال أبي فحدثني أبو إسحاق بن عامر حدثه بذلك عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد: وهذا مختصر وهو على ما ذكرنا أنه عليه السلام إنما عنى بذلك التي بلغت لا يجوز غير هذا لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وأما احتجاجهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هم من آبائهم فإنما قال ه عليه السلام في الحكم لا في الدين ولله تعالى أن يفرق بين أحكام عباده ويفعل ما يشاء لا معقب لحكمه وأيضاً فلا متعلق لهم بهذا اللفظ أصلاً لأنه إنما فيه أنهم من آبائهم وهذا لا شك فيه أنهم توالدوا من آبائهم ولم يقل عليه السلام أنهم على دين آبائهم وأما قولهم ينبغي أن تصلوا على أطفال المشركين وتورثوهم وترثوهم وأن لا تتركونهم يلتزموا دين آبائهم إذا بلغوا فإنها ردة فليس لهم أن يعترضوا على الله تعالى فليس تركنا الصلاة عليهم يوجب أنهم ليسوا مؤمنين فهؤلاء الشهداء وهم أفاضل المؤمنين لا يصلى عليهم وأما انقطاع المواريث بيننا وبينهم فلا حجة في ذلك على أنهم ليسوا مؤمنين فإن العبد مؤمن فاضل لا يرث ولا يورث وقد يأخذ المسلم مال عبده الكافر إذا مات وكثير من الفقهاء يورثون الكافر مال العبد من عبيده يسلم ثم يموت قبل أن يباع عليه وكثير من الفقهاء يورثون المسلمين مال المرتد إذ مات كافراً مرتداً وقتل على الردة وهذا معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان ومسروق بن الأجدع وغيرهم من الأئمة رضي الله عنهم يورثون المسلمين من أقاربهم الكفار إذا ماتوا ولله تعالى أن يفرق بين أحكام من شاء من عباده وإنما نقف حيث أوقفنا النص ولا مزيد وكذلك دفنهم في مقابر آبائهم أيضاً وكذلك تركهم يخرجون إلى أديان آبائهم إذا بلغوا فإن الله تعالى أوجب علينا أن نتركهم وذلك ولا نعترض على أحكام الله عز وجل ولا يسأل عما يفعل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مولود على الملة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه.
قال أبو محمد فبطل أن يكون لهم في شيء مما ذكرنا متعلق وإنما هو تشغيب موهوا به لأن كا ما ذكرنا فإنما هي أحكام مجردة فقط وليس في شيء من هذه الاستدلالات نص على أن أطفال المشركين كفار ولا على أنهم غير كفار وهذه النكتتان هما اللتان قصدنا بالكلام فقط وبالله تعالى التوفيق وأما من قال فيهم بالوقف فإنهم احتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن الأطفال يموتون فقال عليه السلام الله أعلم بما كانوا عاملين وبقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ مات صبي من أبناء الأنصار فقال ت عصفور من عصافير الجنة فقال لها عليه السلام وما يدريك يا عائشة أن الله خلق خلقاً للنار وهم في أصلاب آبائهم.
قال أبو محمد وهذان الخبران لا حجة لهم في شيء منهما إلا أنهما إنما قال هما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه أنهم في الجنة وقد قال تعالى آمراً لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " قبل أن يخبره الله عز وجل بأنه قد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخير وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه وما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي وكان هذا قبل أن يخبره الله عز وجل بأنه لا يدخل النار من شهد بدر أو هو عليه السلام لا يقول إلا ما جاء به الوحي كما أمر الله عز وجل أن يقول " أن اتبع إلا ما يوحى إلي " فحكم كل شيء من الدين لم يأت به الوحي أن يتوقف فيه المرء فإذا جاء للبيان فلا يحل التوقف عن القول بما جاء به النص وقد صح الإجماع على أن ما علمت الأطفال قبل بلوغهم من قتل أو وطئ أجنبية أو شرب خمر أو قذف أو تعطيل صلاة أو صوم فإنهم غير مؤاخذين في الآخرة بشيء من ذلك ما لم يبلغوا وكذلك لا خلاف في أنه لا يؤاخذ الله عز وجل أحداً بما لم يفعله بل قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه فمن المحال المنفي أن يكون الله عز وجل يؤاخذ الأطفال بما لم يعملوا مما لو عاشوا بعده لعملوه وهم لا يؤاخذهم بما عملوا ولا يختلف اثنان في أن إنساناً بالغاً مات مما لو عاشوا بعده لعملوه وهم لا يؤاخذهم بالزنا الذي لم يعمله وقد أكذب الله عز وجل من ظن هذا بقوله الصادق " الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ " وبقوله تعالى " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " فصح أنه لا يجزي أحد بما لم يعمل ولا مما لم يسن فصح أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أعلم بما كانوا عاملين به مما لم يعملوه بعد وفي هذا اختلفنا لا فيما عداه وإنما فيه أن الله تعالى يعلم ما لم يكن وما لا يكون لو كان كيف كان يكون فقط ونعم هذا حق لا يشك فيه مسلم فبطل أن يكون لأهل التوقف حجة في شيء من هذين الخبرين إذ لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة بيان وأما من قال أنهم يعذبون بعذاب آبائهم فباطل لأن الله تعالى يقول " ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى " وأما من قال أنهم توقد لهم نار فباطل لأن الأثر الذي فيه هذه القصة إنما جاء في المجانين وفيمن لا يبلغه ذكر الإسلام من البالغين على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد فلما بطلت هذه الأقاويل كلها وجب النظر فيما صح من النصوص من حكم هذه المسألة ففعلنا فوجدنا الله تعالى قد قال " فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " و قال عز وجل " قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط " إلى قوله " لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " إلى قوله " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون " فنص عز وجل على أن فطر الناس على الإيمان وأن الإيمان هو صبغة الله تعالى و قال عز وجل " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " فصح يقيناً أن كل نفس خلقها الله تعالى من بني آدم ومن الجن والملائكة فمؤمنون كلهم عقلاً مميزون فإذ ذلك كذلك فقد استحقوا كلهم الجنة بإيمانهم حاشا من بدل هذا العهد وهذه الفطرة وهذه الصبغة وخرج عنها إلى غيرها ومات على التبديل وبيقين ندري أن الأطفال لم يغيروا شيئاً من ذلك فهم من أهل الجنة وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مولود يولد على الفطرة وروي عنه عليه السلام أنه قال على الملة فأباه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاً وهل يجدون فهيا من جدعاء حتى تكونوا أنتم الذي تجدعونها وهذا تفسير الآيات المذكورات حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا محمد بن إسحاق السكن حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث حدثنا الحسن بن علي حدثنا الحجاج بن المنهال قال سمعت حماد بن سلمة يفسر حديث كل مولود يولد على الفطرة فقال هذا عندنا حيث أخذ الله العهد عليهم في أصلاب آبائهم حيث قال " ألست بربكم قالوا بلى " وقد صح أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق عياض بن حمار المجاشعي قال عن الله تعالى أنه قال خلقت عبادي حفناء كلهم فاجتالهم الشياطين عن دينهم فصح يقيناً أنه كل من مات قبل أن تجتاله الشياطين عن دينه فقد مات حنيفاً وهذا حديث تدخل فيه الملائكة والجن والإنس عباد له عز وجل مخلوقين وأيضاً فإن الله عز وجل أخبر بقول إبليس له تعالى أن يغوي الناس فقال تعالى " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين " فصح يقيناً أن الغواية داخلة على الإيمان وأن الأصل من كل واحد فهو الإيمان وكل مؤمن ففي الجنة وأيضاً فإن الله تعالى قال " فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " وليست هذه صفة الصبيان فصح أنهم لا يدخلون النار ولا دار إلا الجنة أو النار فإذا لم يدخلوا النار فهم بلا شك في الجنة وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا الكبيرة التي رآها أنه رأى إبراهيم عليه السلام في روضة خضراً مفتخر وفيها من كل نور ونعيم وحواليه من أحسن صبيان وأكثرهم فسأل عليه السلام عنهم فأخبر أنهم من مات من أولاد الناس قبل أن يبلغوا فقيل له يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين فارتفع الإشكال وصح بالثابت من السنن وصحيحها أن جميع من لم يبلغ من أطفال المسلمين والمشركين ففي الجنة ولا يحل لأحد تعدى ما صح بالقرآن والسنن وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل إذا قلتم أن النار دار جزاء فالجنة كذلك ولا جزاء للصبيان قلنا وبالله تعالى التوفيق إنما نقف عندما جاءت به النصوص في الشريعة قد جاء النص بأن النار دار جزاء فقط وأن الجنة دار جزاء وتفضل فهي لأصحاب الأعمال دار جزاء بقدر أعمالهم ولمن لا عمل له دار تفضل من الله تعالى مجرد وقد قال قوم أن الصبان هم خدم أهل الجنة وقد ذكر الله تعالى الوالدان المخلدين في غير موضع من كتابه وأنهم خدم أهل الجنة فلعلهم هؤلاء والله أعلم.
قال أبو محمد: وأما المجانين لا يعقلون حتى يموتوا فإنهم كما ذكرنا يولدون على الملة حفناء مؤمنين ولم يغيروا ولا بدلوا فماتوا مؤمنين فهم في الجنة حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي بالثغري قال حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى بن المفرج القاضي حدثنا محمد بن أيوب السموط البرقي أنبأنا محمد بن عمر بن عبد الخالق البزاز حدثنا محمد بن المثني أبو موسى الزمن حدثنا معاذ بن هشام الدستواني حدثنا أبي عن قتادة عن الأسود بن سريع التميمي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يعرض على الله الأصم الذي لا يسمع شيئاً والأحمق والهرم ورجل مات في الفترة فيقول الأصم رب جاء الإسلام ولم أسمع شيئاً ويقول الأحمق جاء الإسلام وما أعقل شيئاً ويقول الذي مات في الفترة ما أتانا لك من رسول قال البزاز وذهب عني ما قال الرابع قال فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل الله إليهم ادخلوا النار فوا الذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلام.